سام الغباري
اعتراف في يوم اللغة
الخميس 19 ديسمبر 2019 الساعة 20:26

آخر شيء أتذكره من النحو قدرتي على إعراب "أحمد يلعب بالكرة" ، أكثر من ذلك لا أستطيع !، كان زميل الصف الإبتدائي "رفيق" يُشكّل الحروف بمهارة فتى أسمر نحيل، يضع الشدة والضمة ويفتح هذا الحرف ويكسر آخر، يلهو بعلامات التشكيل مثل مايسترو يُحرك يديه ليصنع معزوفة جميلة، وكُنتُ وراءه بمقعدين إلى اليسار، أراقبه وأسأل نفسي : "كيف يفعل ذلك ؟" 

 

في الاختبار النهائي ، لا أعرف كيف نجوت من أسئلة الإعراب ؟ ، فقط كنت أنجح !، وقد تكونت في داخلي حكمة صغتها طوال سنين المواجهات العسيرة مع النحو ، قلت : اللغة العربية ليست المصادر و القواعد الجامدة، اللغة بلاغة، بيان، سحر ، والقدرة على إدهاش الآخرين" . إلى هنا تنتهي الحِكمة، وأعلم أنها طويلة نسبيًا ، لكنها جبرت خاطري كثيرًا ، كلما وجدتني أتجاوز الرسوب بدرجة أو درجتين.

 

كُنتُ أصغر طلاب الصف عمرًا ، دخلت المدرسة في سِن الرابعة، ولم استطع التخلص من قردة الحديث إلا في الصف الخامس، ولطالما سألت نفسي "لماذا أمي بلقيس، وأبي صالح" ؟ ، وأدركت في 2011 ضمن خطاب المعارضة أن هذين الإسمين يرمزان إلى فردين من عائلة الرئيس الراحل ! 

في الصف الثاني الإعدادي ، قلت لأستاذ اللغة العربية العجوز، ما الذي يعنيه أن يكون المضاف إليه مرفوعًا أو مجرورًا ؟ كأن تقول "مهمة العاطلين أو العاطلون" ، أليس المعنى واحدًا ؟ ياء أو واو ، ألف بهمزة أو دونها ، ما الذي سيجرح اللغة ؟ ، أتذكر أنه تحدث عن قوانين مجمع اللغة وإجماع عباقرتها بضرورة ذلك ، شيء ما يُشبه الفتوى، إسمع وأطع .

ولم أطع ..

قرأت لمحمود شاكر مقدمته عن مالك بن نبي، وجلست كالمهزوم على مقعد أبيض، أحملق في الفراغ، غير مصدق أن هناك لغة أفضل منها ، ثم أفرغت الكلمات على قائمتين طويلتين، وعلقتهما على جدار غرفتي المصاب بمرض الصدفية ، ثم شرعت في كتابة مشابهة .. وفشلت !

خرجت من "الفِكر" وشرعت في القصة، وقتذاك كانت قدمي اليسرى مُغلّفة بستار أبيض من الجص، وحركتي مُقيدة إلى سرير أرضي، وكلما في الحكاية أني تغيبت ثلاثة أشهر عن المدرسة بفعل جسد قُذف نحوي من السماء عند حافة الدرج، وأصِبت بكسر في الكاحل، وتبرع صديق مهووس إسمه "طارق" بكل ماهو سيء في تلك الأيام لإسعادي ، عَرَض خدمة مجانية لشريط فيديو إباحي !، تناقشنا طويلًا حول ذلك، وحسم وضعي الطبي الأمر لصالح إستبعاد العرض الشائن، أهداني كُتبًا لإحسان عبدالقدوس، وقرأت ، القصة الأولى لم أفهمها ، أين ذهبت تلك العجوز بعد أن تناولت أقراص الإسبرين؟ هل ماتت ؟ أين الجزء الثاني من القصة؟ ما هذه النهاية المبتورة ؟ 

ولم يكن لديّ حل ، سوى القراءة، وفعلت، حينها بدأت اكتشف اللغة ، ولم أتنازل عن كراهيتي للنحو، ومصادر الأفعال الخماسية، والمضاف، والحال، ومصطلحات غريبة . لطالما كانت اللغة بالنسبة لي جدار حمايتي الأول، لستُ فصيحًا في الحديث إلى الناس، أجد الأفكار التي رتّبتها تفر مني، وأبقى وحيدًا مع فكرة وحيدة في خضم نقاش يستدعي استحضار كل أمر ، حينها ألوذ بالكتابة مثل محارب وجد درعه وسيفه في خضم معركة قديمة بالسيوف . 

أكتب لأجلي، وأشرح بوحًا حبيسًا لا أملك تعابيره التفصيلية إذا ما شرحته وجهًا لوجه، أنا رجل بنى حِصنًا من الحروف، ومكثت داخله بلا رعايا أو خدم، بلا جنود وأحصنة، يكفي أن أصهل صباحًا كل يوم، لأشعر أنني حصان يطوف أجنحة حِصنه وثغوره ومتاريسه، ليزداد يقيني كل يوم أنني صِرت جيشًا من الكلمات .

كل عام ولغتنا العربية كما أحبها أنا.